Pages

Monday, May 2, 2011

صور القطار

على رصيف القطار بمحطة سيدى جابر وقف شادى مرتعشا وهو يرى القطار القادم من محطة مصر ومتجه للقاهرة. رصيف المحطة الأصلى مختبىء تحت الخيمة العملاقة. اعمال التجديد والتطوير بدأت منذ شهور ولا يبدو انها اقتربت من نهايتها. كان على ادارة المحطة ان توجد بديل فمدت الارصفة لخارج المحطة حتى تنتهى عمليات الترميم. ولكن الارصفة الجديدة اقصر من القطار نفسه. كان شادى يحمل تذكرته بيده وعيناه على العربة الثامنة بالقطار التى كانت تقف بعد الرصيف. الحل الوحيد للوصول لها هو ركوب العربة السادسة للقطار والسير بداخله الى ان يصل لمقعده.
تكالبت الناس على باب العربة السادسة وظهر بعض التوتر بين الناس على المحطة. خشى شادى ان يبدأ القطار فى التحرك وهو مازال على الرصيف. قفز الرجل الضخم الذى كان يقف امامه بداخل القطار فافسح المجال امام شادى ليرى الفرق بين الرصيف والقطار. بدا له ان الرصيف ابعد من الطبيعى ولثانية اصابه هاجس ان قدمه ستنزلق بين القطار والرصيف وسيقع. مد بصره لأعلى حتى لا يرى الهوة وقفز لداخل القطار.
صور كثيرة تأتى زاحفة من ركن مظلم فى الذاكرة احيانا لتطارد شادى كما تفعل مع الكثير. صور بالابيض والاسود وبلا صوت لكنها حية وتنبض لا تموت ولا يمكن توقع ميعاد ظهورها.
*********
الصورة الاولى حفرة كبيرة وهو يقف على حافتها. كان شادى واسرته فى زيارة لاحد الاقارب فى ابو قير وكان عليهم ان يستقلوا قطار ابوقير ولكن المحطة لسوء الحظ كانت تحت الاصلاح ايضا وكانت اجزاء كثيرة من الرصيف مهدودة ويعاد صبها من جديد.
عندما توقف القطار كان شادى يجرى من القطار لينزل منه اولا وعندما هم بالقفز امسكه ابوه من كتفه بالقوة واعاده لداخل القطار. كان شادى على وشك ان يسقط فى حفرة تتعدى المتر عمقا. نظر شادى للحفرة وفزع وامسك بيد ابيه بقوة. قال الاب: علينا ان نتجه للباب الاخر قبل ان يبدأ القطار فى التحرك .. هيا بنا
اتجهت الاسرة كلها للباب الاخر وما ان هبط شادى من القطار حتى تحرك. نظر شادى خلفه فلم يرى احدا معه على الرصيف من اسرته. 
*********
سار بين الكراسى وهو يتصبب عرقا ويتخبط يمينا ويسارا فى الجالسين. وما ان جلس على مقعده حتى بدأ يتنفس مرة أخرى بعد ان كانت انفاسه محبوسة. مد قدميه امامه وحاول ان يسترخى. فقد شعر ببعض الرعشة فى ركبتيه.
فى خلال دقائق كان شادى قد هدأ وبدأ فى النسيان. وفى محطة رمسيس نزل من القطار بكل هدوء وكأن شيئا لم يكن.
يضطر شادى مرة فى الاسبوع للسفر للقاهرة لينهى اعماله. دائما ما يركب القطار ويفضله عن الاتوبيس الذى ينزعج لضيقه.
فى نهاية اليوم اتجه شادى لرمسيس وركب قطار العودة للاسكندرية وغفا قليلا. فى طنطا صعد بائع الحلاوة وأمضى وقت طويل فى الفصال مع احدى السيدات وبدا القطار فى التحرك وهو مازال على متنها ارتعب شادى من فكرة ان البائع سيقفز من القطار وهو 
يتحرك. وظل يتابعه من الشباك ولكن البائع الذى يقفز من القطار كل يوم عشرات المرات لم يصب بسوء.
*********
الصورة الثانية صورة امه وهى تصرخ والقطار يتحرك. بعد ان نزل شادى التفت خلفه ونظر للقطار فرأى امه تتشبث بالباب وهى تصرخ به: لا تتحرك .. لا تتحرك .. سننزل فى المحطة المقبلة ونرجع لك .. لا تتحرك .. لا تتحرك
*********
تنبه شادى الى ان للمرة الثانية يجلس فى العربة الثامنة التى لا تصل للرصيف وعليه هذه المرة ان ينزل من القطار من باب العربة السادسة او ربما يقفز من الباب الى الارض ليكسر قدميه. لم يستطع ان يغمض عينيه وركز نظره على الشباك لعله ينشغل بما يراه ولكنه لم يستطع رؤية شيئا فالليل خارج القطار حول كل المشاهد الى خيالات تتحرك امامه بسرعة دون ان ينتبه لتفاصيلها.
*********
الصورة الثالثة صورة لا يرى فيها احدا او شيئا .. صورة غائمة كضباب كثيف. يرى نفسه يقف فى مكان لا يرى ابعاده ملىء بأناس لا يرى وجوههم ولكنه يشعر فقط بخوفه. فى الصورة الثالثة كان لا يرى شيئا ملموسا ولكنه يرى فزع يحيطه ككيس هوائى ضخم لا يستطيع قطعه. عندما تحرك القطار واصبح شادى وحيدا على الرصيف لم يفكر فى شىء ولم يتذكر سوى القصص التى كان يسمعها عن الاطفال الذين يخطفهم الحرامية. بدأ يعد لعشرة ثم لخمسين ثم لمائة وتوقف. كان يشعر بدقات قلبه ويكاد يسمعها. بدا يشك فى ان ابيه وامه نسياه او ان المحطة التالية ستكون فى مدينة اخرى خارج الاسكندرية.
*********
وصل القطار للاسكندرية مرة أخرى وبدأ الجميع فى الوقوف والاتجاه لباب العربة، حاول شادى ان يسرع ليسير فى القطار حتى العربة السادسة وينزل منها قبل ان يتحرك القطار ويتجه لمحطة مصر لكن جميع الركاب كانوا متراصين امام الباب فى هدوء ولم يحاول احدهم الجرى نحو العربة السادسة مثله.
*********
الصورة الرابعة صورة وجه امه فى وسط زحام، بعد فترة طويلة من الانتظار سمع شادى صوت ابيه يناديه تلفت حوله لم يرى ابيه ولكنه رأى امه تقف خارج المحطة تلهث وتنظر له بقلق، بدأ يجرى نحوها دون ان ينتبه الى اين يجرى، وقبل ان يقع من الرصيف امسك بكتفه كف قوى وحماه من السقوط. نظر خلفه ليرى ابيه. وضع شادى كفه الصغير فى كف ابيه الكبير طول الليل، لم يترك يد ابيه حتى ذهب لسريره لينام. طوال الليل كان شادى ممسكا بابيه بيد وبأمه بأخرى. كانت اكبر وقوى يد لمسها شادى او هكذا احس.
*********
توقف القطار فى محطة سيدى جابر ونزل الجميع، اغمض شادى عينيه قبل ان ينزل من القطار وقفز، ما ان لامست قدميه ارض المحطة حتى اسرع الخطى لشباك التذاكر. يفضل شادى دائما ان يحجز لرحلته القاهرية التالية قبلها بوقت كاف.
أمام الشباك: واحد القاهرة الاثنين اللى جاى الساعة 9 بس مايكونش فى عربية 8 لو سمحت

1 comment:

Anonymous said...

جميل جدااا ان نصور لحظات الخوف انها لا تستغرق في خيالنا سوي بضع لحظات وقد تستغرق اطول عندما ننتظر رد الفعل من ايدينا او اقدامنا ..كل من تعرض لموقف من الرعب استعرض فيه كل ما مر به او ما سمعه منحوادث تتعلق بنفس الموقف وكم هو غريب عقلنا البشري حين نكون مستعدين للفزع والرعب انه يتذكر بكل التفاصيل ما يمكن ان قد حدث منذ سنوات وسنوات لعلها لحظات فارقه قد نتذكرها ونضحك ونشكر الله علي النجاة منها وقد نتذكرها بخوف من تكرارها مرة اخري مثل شادي ولكن في النهايه قصتك جميلة وكان امن الممكن ان تكون اقصر من كده شويه من ناحية سرد فاصيل تجربته السابقه ومش حنسي اقولك فعلا ايد الاب والام كبيره وقويه سبحان الله مهما كبرنا