Pages

Tuesday, May 3, 2011

مسح الكربون


بدوت سعيدا عندما رأيتك معها أمس، لا تشبهنى ولكنها تناسبك تماما. أنا لم أتخطاك بعد. بل ربما تخطيتك ولكنى قررت ألا أعيد التجربة أبدا. تعلمت من خطأى.
عندما أتيت لم تفسح لى لأجلس بجانبك كما كنت تفعل دائما وتجاهلتنى تماما. أتفهم هذا طبعا. فى وسط هذه المجموعة من الأصدقاء حيث يعرف الجميع عنا كل شىء لم يندهش أحد لتصرفك سواى. وكأنى ارفض التنازل عنك لها.
أنا من قررت النهاية ولكنى أريدك دائما مربوطا بحبل طرفه بيدى. كلا لاأقصد ان أهينك ولكنى دوما سأراك ملكى.
لقد عرفت الحب معى لأول مرة ويقولون ان الحب الأول لا يُنسى أبدا. نيرمين تعتقد انى مازلت أحبك مهما أنكرت. حتى حسام يؤكد ذلك. وأنا أبتسم عندما أسمعهم. حمقى.
لقد قررت ان أكون حرة منك. لا يفهمون مساكين.
لا أنوى ان أهدر جهدى فى شرح ما حدث لهما أو لأى شخص. ولكن أتدرى؟ ربما يوما ما أحكى لزوجتك عما حدث حتى تتوقف عن تلك السخافات التى تفعلها كلما تواجدنا معا فى نفس المكان.
أمس ظلت تتكلم عن ابنكما كى تقول لى انها من نجحت فى ان تصير أم أولادك، انها من أعطتك اثبات لحب لم أعطه أنا لك. تفكيرها الساذج يصيبنى بالغثيان.
كلما أتى أو ذهب فرد من المجموعة ألمحها بطرف عينى فى وسط الهرجلة تتفحصنى بدقة. لقد استمتعت حقا بالضغط على أعصابها أمس عندما كنت أتكلم عن نفسى أمام الجميع. وعن حياتى الناجحة بدونك. لقد لمحت فى عينيك نظرة كهربتنى. هل كنت تتوقع ان أموت بدونك مثلا؟ أو أن أظل أبكى أطلال قصة الحب الضائع الى اخر الدهر؟
لقد تخطيتك منذ زمن. تخطيتك وقررت ان أعيش بدون أشباهك فى حياتى.
أميرة الوحيدة التى كانت تدرك التوتر الناتج من وجودى مع زوجتك على نفس الطاولة. همست فى أذنى راجية ألا ألعب بالنار. وأخبرتها انى سألتزم الأدب طالما التزمت زوجتك الصمت ولكنها لم تفعل. أنا لم أخطىء فى شىء بالمرة.
عندما سألنى أكرم ان كانت شائعة ارتباطى بهيثم حقيقية لمحت العروق بصدغك وهى تنتفض. لم تنسنى اذن ولم تتخطانى كما تخطيتك. انها اللحظة التى ضخمت كبريائى وأرضت غرورى. ولهذا تعمدت الا أرد بسرعة. كنت أريد ان استمتع باللحظة لأطول قدر ممكن.
هيثم لم يملأ اذنى بسخافات الحب الذى لا يقهره شىء مثلما كنت تفعل كل ليلة ولكنه طلب منى الزواج مباشرة. يختلف عنك بالتأكيد. يعبر عن نفسه بشكل أكثر رجولة وقوة ولا يأبه بأحد. ورغم مثاليته الا انى رفضت. فى أعماقى اشعر بالندم لرفضه. ولكنى لم أجرؤ على ان أعيش حياتى مع شخص يعرفك.
سيظل ظلك فى حياتى دائما وأنا أريد البعد عن كل ما يذكرنى بك. لقد تخطيتك تماما ولا يبدو من المناسب ان أظل فى مجرتك.
أعتقد ان هيثم فهم اسبابى رغم انى لم أصرح له بها. فقد قال لى انه سينتقل لدولة عربية بعد 4 أشهر. ثم مضى وتركنى لأفكارى.
لا أريد ان أهرب من هنا ولا اريد ان أتعثر فيك كلما خطوت خطوة. حياتى الآن بدونك فى منتهى السهولة. أنا أعلم تماما ما أريده وأعلم تماما كيف أحصل عليه.
معك كنت أهرب من نفسى باستمرار. أو ربما الأدق كنت لا أجد نفسى. كنت أتغير حتى ترضى ولكنك لم ترض أبدا. كورقة تقع أسفل كربون باهت أمضيت شهور من عمرى، لا انا صورتك ولا انا نفسى.
الآن مسحت آثارك من على سطح نفسى واسترجعت صورتى القديمة، لقد افتقدتها. بعد ان رأيت زوجتك أمس فهمت لماذا استمرت علاقتكما. لم أرى شخصا جديدا بل صورة تركيب منك. فلتهنأ بها.
عجيب هيثم هذا !! كلما تكلمت معه كلما زاد اعجابى بنفسى وبه. لا يفتعل المجاملات ولا يشدو بجمل حب ركيكة ولكنه يقول لى ببساطة انه يحبنى ويريدنى. فقط ذلك. يرانى جميلة ويحب ان يسمعنى اتكلم. انتظرت منه ان يقرر لى الخطوط الحمراء والاشياء التى يرفضها وما الى ذلك ولكنه لم يفعل.
ينتظر منى ردا قبل سفره ولا أدرى ماذا أقول. يطلب منى ان اعيد التفكير فى عرضه. قبل لقاء الامس ربما كان لدى بواقى مشاعر مركونة لك فى حفرة اسفل قلبى ولكنها اختفت بعد ان رايتك مع زوجتك. لاول مرة افكر فى هيثم ويراودنى خاطر ان وجوده معى فى وسط هذا الجمع كان سيسعدنى كثيرا.
فى لحظة معينة نظرت للسماء وكانت صافية والنجوم تتلألأ وكانت الأزهار والورود حول الطاولة تشد بصرى بعيدا عنكم جميعا وكأن الكون يتآمر برومانسيته على قلبى حتى يخضع للحب. احب هذا المكان المفتوح ولكنه يرهق مشاعرى بروعته. فى تلك اللحظة تمنيت لأول مرة فى حياتى ان انتمى لهيثم. فى وسط تلك الطبيعة الخلابة لا يمكن التفكير الا فى شخص يرقى لمستواها شخص بنفس القوة ونفس الرقة. كنت تجلس معى وآخرون على نفس الطاولة ولكنى لم أشعر بأى منكم وخدعتنى أذنى اذ اعتقدت انى اسمع اسمى كما يناديه هيثم. ينطقه بلطف وبهدوء ودائما عينه فى عينى.
تظن زوجتك انى اتعالى عليها عندما لم ارد على سؤالها الحقيقة انى لم اسمع. كان صوت هيثم فى أذنى لحظتها وانشغلت به. حتى باقى الأصدقاء لامونى ولكنى لم ارد الشرح فلن يفهموا.
منذ ان عدت للمنزل أمس وانا لا افكر الا فيك. كيف كنت اراك؟ ولماذا تركت نفسى لأكون شبه أنا؟
رغم صعوبة لقاء امس الا اننى يجب ان اشكرك على ترتيبه. علك كنت تقصد الانتقام منى بوضعى على طاولة واحدة مع زوجتك ولكنك انتقمت من نفسك. ندمت على المجهود الذى صرفته لتخطيك فى شهور فكل ما كنت احتاجه فى الحقيقة هو انا اراك مرة اخرى لأفهم.
أعلم الآن ما أريد ومن أريد ولماذا.

Monday, May 2, 2011

صور القطار

على رصيف القطار بمحطة سيدى جابر وقف شادى مرتعشا وهو يرى القطار القادم من محطة مصر ومتجه للقاهرة. رصيف المحطة الأصلى مختبىء تحت الخيمة العملاقة. اعمال التجديد والتطوير بدأت منذ شهور ولا يبدو انها اقتربت من نهايتها. كان على ادارة المحطة ان توجد بديل فمدت الارصفة لخارج المحطة حتى تنتهى عمليات الترميم. ولكن الارصفة الجديدة اقصر من القطار نفسه. كان شادى يحمل تذكرته بيده وعيناه على العربة الثامنة بالقطار التى كانت تقف بعد الرصيف. الحل الوحيد للوصول لها هو ركوب العربة السادسة للقطار والسير بداخله الى ان يصل لمقعده.
تكالبت الناس على باب العربة السادسة وظهر بعض التوتر بين الناس على المحطة. خشى شادى ان يبدأ القطار فى التحرك وهو مازال على الرصيف. قفز الرجل الضخم الذى كان يقف امامه بداخل القطار فافسح المجال امام شادى ليرى الفرق بين الرصيف والقطار. بدا له ان الرصيف ابعد من الطبيعى ولثانية اصابه هاجس ان قدمه ستنزلق بين القطار والرصيف وسيقع. مد بصره لأعلى حتى لا يرى الهوة وقفز لداخل القطار.
صور كثيرة تأتى زاحفة من ركن مظلم فى الذاكرة احيانا لتطارد شادى كما تفعل مع الكثير. صور بالابيض والاسود وبلا صوت لكنها حية وتنبض لا تموت ولا يمكن توقع ميعاد ظهورها.
*********
الصورة الاولى حفرة كبيرة وهو يقف على حافتها. كان شادى واسرته فى زيارة لاحد الاقارب فى ابو قير وكان عليهم ان يستقلوا قطار ابوقير ولكن المحطة لسوء الحظ كانت تحت الاصلاح ايضا وكانت اجزاء كثيرة من الرصيف مهدودة ويعاد صبها من جديد.
عندما توقف القطار كان شادى يجرى من القطار لينزل منه اولا وعندما هم بالقفز امسكه ابوه من كتفه بالقوة واعاده لداخل القطار. كان شادى على وشك ان يسقط فى حفرة تتعدى المتر عمقا. نظر شادى للحفرة وفزع وامسك بيد ابيه بقوة. قال الاب: علينا ان نتجه للباب الاخر قبل ان يبدأ القطار فى التحرك .. هيا بنا
اتجهت الاسرة كلها للباب الاخر وما ان هبط شادى من القطار حتى تحرك. نظر شادى خلفه فلم يرى احدا معه على الرصيف من اسرته. 
*********
سار بين الكراسى وهو يتصبب عرقا ويتخبط يمينا ويسارا فى الجالسين. وما ان جلس على مقعده حتى بدأ يتنفس مرة أخرى بعد ان كانت انفاسه محبوسة. مد قدميه امامه وحاول ان يسترخى. فقد شعر ببعض الرعشة فى ركبتيه.
فى خلال دقائق كان شادى قد هدأ وبدأ فى النسيان. وفى محطة رمسيس نزل من القطار بكل هدوء وكأن شيئا لم يكن.
يضطر شادى مرة فى الاسبوع للسفر للقاهرة لينهى اعماله. دائما ما يركب القطار ويفضله عن الاتوبيس الذى ينزعج لضيقه.
فى نهاية اليوم اتجه شادى لرمسيس وركب قطار العودة للاسكندرية وغفا قليلا. فى طنطا صعد بائع الحلاوة وأمضى وقت طويل فى الفصال مع احدى السيدات وبدا القطار فى التحرك وهو مازال على متنها ارتعب شادى من فكرة ان البائع سيقفز من القطار وهو 
يتحرك. وظل يتابعه من الشباك ولكن البائع الذى يقفز من القطار كل يوم عشرات المرات لم يصب بسوء.
*********
الصورة الثانية صورة امه وهى تصرخ والقطار يتحرك. بعد ان نزل شادى التفت خلفه ونظر للقطار فرأى امه تتشبث بالباب وهى تصرخ به: لا تتحرك .. لا تتحرك .. سننزل فى المحطة المقبلة ونرجع لك .. لا تتحرك .. لا تتحرك
*********
تنبه شادى الى ان للمرة الثانية يجلس فى العربة الثامنة التى لا تصل للرصيف وعليه هذه المرة ان ينزل من القطار من باب العربة السادسة او ربما يقفز من الباب الى الارض ليكسر قدميه. لم يستطع ان يغمض عينيه وركز نظره على الشباك لعله ينشغل بما يراه ولكنه لم يستطع رؤية شيئا فالليل خارج القطار حول كل المشاهد الى خيالات تتحرك امامه بسرعة دون ان ينتبه لتفاصيلها.
*********
الصورة الثالثة صورة لا يرى فيها احدا او شيئا .. صورة غائمة كضباب كثيف. يرى نفسه يقف فى مكان لا يرى ابعاده ملىء بأناس لا يرى وجوههم ولكنه يشعر فقط بخوفه. فى الصورة الثالثة كان لا يرى شيئا ملموسا ولكنه يرى فزع يحيطه ككيس هوائى ضخم لا يستطيع قطعه. عندما تحرك القطار واصبح شادى وحيدا على الرصيف لم يفكر فى شىء ولم يتذكر سوى القصص التى كان يسمعها عن الاطفال الذين يخطفهم الحرامية. بدأ يعد لعشرة ثم لخمسين ثم لمائة وتوقف. كان يشعر بدقات قلبه ويكاد يسمعها. بدا يشك فى ان ابيه وامه نسياه او ان المحطة التالية ستكون فى مدينة اخرى خارج الاسكندرية.
*********
وصل القطار للاسكندرية مرة أخرى وبدأ الجميع فى الوقوف والاتجاه لباب العربة، حاول شادى ان يسرع ليسير فى القطار حتى العربة السادسة وينزل منها قبل ان يتحرك القطار ويتجه لمحطة مصر لكن جميع الركاب كانوا متراصين امام الباب فى هدوء ولم يحاول احدهم الجرى نحو العربة السادسة مثله.
*********
الصورة الرابعة صورة وجه امه فى وسط زحام، بعد فترة طويلة من الانتظار سمع شادى صوت ابيه يناديه تلفت حوله لم يرى ابيه ولكنه رأى امه تقف خارج المحطة تلهث وتنظر له بقلق، بدأ يجرى نحوها دون ان ينتبه الى اين يجرى، وقبل ان يقع من الرصيف امسك بكتفه كف قوى وحماه من السقوط. نظر خلفه ليرى ابيه. وضع شادى كفه الصغير فى كف ابيه الكبير طول الليل، لم يترك يد ابيه حتى ذهب لسريره لينام. طوال الليل كان شادى ممسكا بابيه بيد وبأمه بأخرى. كانت اكبر وقوى يد لمسها شادى او هكذا احس.
*********
توقف القطار فى محطة سيدى جابر ونزل الجميع، اغمض شادى عينيه قبل ان ينزل من القطار وقفز، ما ان لامست قدميه ارض المحطة حتى اسرع الخطى لشباك التذاكر. يفضل شادى دائما ان يحجز لرحلته القاهرية التالية قبلها بوقت كاف.
أمام الشباك: واحد القاهرة الاثنين اللى جاى الساعة 9 بس مايكونش فى عربية 8 لو سمحت

Monday, March 21, 2011

ميكانو

علبة مستطيلة ملونة عليها اسم اللعبة بالانجليزية: ميكانو
احضرها الأب معه وهو عائد فى اجازة من عمله بالخارج: احضرت لك لعبة المهندسين كما طلبت.
اخذها الفتى وذهب لغرفته واغلق الباب
لمس الغلاف الشفاف باصابعه. قرأ كل حرف مكتوب على العلبة وامسك بها طويلا ليحتفظ بصورتها فى ذاكرته قبل ان يفتحها.
ازال الغلاف الشفاف وفتح العلبة برفق وكأنها علبة من زجاج. تلألأت عيناه بمحتوى العلبة. اخرج الفل الابيض الذى يحمل القطع ومسح بعينيه محتويات العلبة. مسامير مفكات وقطع بلاستيكية ملونة مخرمة وكتالوج.
مسح اصابعه فى ملابسه قبل ان يلمس الكتالوج. فتح صفحاته بهدوء وقلب بها حتى وصل لجزء الانجليزية. قرأه عدة مرات قبل ان يقرر الاقتراب من المفك الصغير الاحمر.
تصفح الكتالوج .. صفحة السيارة ثم الطائرة ثم المركب .. نظر للصور بإمعان: هناك أجزاء كبيرة وكثيرة وتركيبها معقد.
قطع اللعبة مرصوصة فى علبة الفل الأبيض المقسم لفراغات مربعة ومستطيلة: المسامير .. الاجزاء البلاستيكية المخرمة .. واسفلهم كان يرقد المحرك الزنبلك.
قرر البدء بالطائرة وفتح الصفحة الخاصة بها، قرأها 5 مرات وذاكر كل تفاصسل الصورة وبدأ فى التركيب. استغرقته لساعات .. لم يلحظ ان الجميع نام. وفى الصباح كان ممسكا بجسم الطائرة وبقى له تركيب جزء الذيل.
حاول تركيب الذيل عدة مرات وفشل .. غضب والقى الطائرة على الارض فانكسر الزنبلك: لعبة غبية!!!
ترك العلبة المنثورة الاحشاء على الارض وخرج من الغرفة.
بعد عشرين عاما:
فى نهاية يوم عمل طويل فى المول الذى يحرسه ذهب الى منزله مع ابنه الصغير ليجمع ما تبقى من اشيائه. وجد العلبة. فتحها. كانت المسامير صدئة والقطع البلاستيكية معوجة لكن جسم الطائرة كان متماسكا.
سأله ابنه: ماهذا؟
فرد: طائرة كنت احاول ان اصنعها وفشلت. وسالت دمعة ساخنة على اصبعه الذى يتحسس مكان الذيل.

Monday, February 28, 2011

شلال المياة

لم يكن فى حقيبتى الا قطعة خبز وقربة مياة صغيرة. نفذ كل الطعام الذى ادخرته لتلك الرحلة الطويلة فى تلك الأدغال التى تتمتد من المحيط الى المحيط. كان بخريطتى علامة على بلدة قريبة توجهت لها وتمنيت ان اصل هناك قبل ان تنفذ منى المياة. وقد تحقق ذلك.
تلك بلدة اولاد فاحى اعظم سحرة الادغال. عندما وصلت البلدة رحبوا بى رغم سوء احوالهم. علمت منهم ان المياة انقطعت من البلدة منذ زمن. لا زرع ولا شرب. كانوا فى حالة اعياء اشد منى.
بلدة اولاد فاحى تقع اسفل هضبة صغيرة. ينبع منها شلال يفيض على الارض وينساب فى جداول صغيرة تتفرع اسفل الهضبة وتصل الى عدة كيلومترات مبتعدة عن الهضبة. شهرة اولاد فاحى فى انهم يزرعون كل شىء فى يومين فقط. مياة شلالهم مقدسة وارضهم طاهرة. كل زرعهم ينمو فى لحظة. يعتمدون على نظام قديم ومحدد فى الزراعة حيث يقوم كل فرد بزراعة نوع معين من الخضار او الفاكهة ثم يتبادلون الاصناف عند جنى المحصول. ثم يزرع صنفا اخرا فى اليومين التاليين وهكذا. ذلك النظام يجعل كل الاصناف متواجدة دائما فى البلدة.
فى يوم من الايام شاهد بعض الاطفال على قمة الهضبة طيور غريبة لم يروها من قبل. هرع الاطفال الى كبير القرية يبلغوه. اعلمهم الكبير ان ذلك فألا سيئا وان اله الارض كلها سيغضب منهم لو تركوا تلك الطيور تلوث المياة. بدأت مراسم التطهير وانتهت بقذف تلك الطيور بالحصى الاحمر الصغير الذى تمتلأ به ارض اولاد فاحى.
كانت كل البلدة ترمى تلك الحصوات كل يوم صباحا الى اعلى الهضبة حتى تبعد الطيور. واستمر الحال لمدة عشرة ايام وبعدها انقطعت المياة. لم يعد الشلال ينساب الى اسفل كما هو الحال منذ آلاف السنين.
عندما وصلت للبلدة كانوا يشربون من الماء المنحسر فى الجداول التى قاربت على الجفاف. كبير البلدة حكى لى ما حدث واعتذر لى انه لا يمكنه اعطائى اى مياة. فالبلد كلها تموت من العطش.
كانت تلك اول زيارة لى لبلدة اولاد فاحى. سمعت عنها الكثير وعن جمال اراضيها وروعة زرعها. قيل لى دائما ان مياههم المقدسة وارضهم الطاهرة تحميهم من كل شر وان اله الارض الذى يعبدونه كان دائما يمنحهم الكثير من عطاياه.
وعندما اتيحت لى الفرصة اخيرا لزيارتها كانت البلدة تموت ولم اشهد ما يقولون.
خرجت من هناك حزينا على تلك البلدة ونظرت الى السماء على استرشد بشىء ما يوجهنى لبلدة اخرى او مكان اخر به مياة.
سرت حول الهضبة الكبيرة لمدة ساعات ثم رأيت من على بعد امتداد لزرع اخضر. بدأت اسير باسرع ما يمكننى اليه.
ووصلت الى اول الارض التى علمت بعد ذلك انها ارض اولاد ساجى. رايت ناس يزرعون الارض وهم يغنون. عندما رآونى استقبلونى بالترحاب واعطونى مياها لأشرب. كانت قربتى قد فرغت.
انتعشت وجلست على الارض لاحفظ هذا المشهد الرائع فى ذاكرتى للأبد.
جلس بجانبى احدهم وسألنى عن اسمى فأخبرته وسالنى عن وجهتى فأخبرته ثم سألنى من اين أتيت فقلت له على اسم بلادى واسم كل البلاد التى مررت بها.
-          هل حقا مررت على اولاد فاحى؟
-          نعم
-          هل توقف الههم عن ارسال المياة كما يقولون؟
-          لم يعد الشلال يتدفق كما كان
-          ماذا فعلوا ليستحقوا هذا العقاب؟
-          لا اعلم
كان اولاد ساجى من التجار الذين يجوبون الارض يتبادلون البضائع مع كل قرى الادغال. كانت مياههم دائما شحيحة فلم يزرعوا ابدا. اخبرنى مستقبلى انهم استيقظوا يوما على صوت مياة يتدفق عليهم من بين الصخور التى باول البلدة. نزلت تلك المياة اولا على كل الارض كالوحش تهدم كل البيوت. الى ان اهتدوا لطريقة يروضوا بها تلك المياة فحفروا قناة ودعموا حوافها باعواد من خشب حتى تبقى المياة بالقناة ثم حفروا قنوات اصغر متفرعة تصل الى كل بيت فى البلدة. وبعد اسبوع فكر احدهم ان يستخدم تلك المياة ليزرع حبوبا كانت معه وكان سيبيعها فى رحلته القادمة. النتيجة ابهرت الجميع حيث نما الزرع فى يومين. كل البلدة قررت ان تجرب ان تزرع الارض.
كان سعيدا وهو يحكى لى كيف كافأهم اله السماء بتلك الهبة. أخبرنى عن احلامهم لتوسيع بلدتهم لتسع الجميع. ولكنه لم يستطع الاجابة على سؤالى: لماذا وهبتم المياة الآن؟
ملأت قربتى وودعت هذا الرجل الرقيق وأخذنى فضولى لأرى المياة المتدفقة من وسط الصخور. كانت المياة تسقط على الصخور من فوق الهضبة من نقطة مظلمة. بعد نصف يوم من التسلق وصلت لأعلى الهضبة التى لا يعتليها احد من اولاد ساجى او اولاد فاحى لاعتقادهم بقدسيتها.
رأيت المياة تخرج من جوف كهف صغير مندفعة متدفقة ثم ترتطم بمانع فتغير المياة اتجاهها لتنساب مائلة فى الاتجاه الآخر. كان هذا المانع حائط من الحصى الاحمر الصغير.


Thursday, July 8, 2010

100 زهرة لا تذبل

بعد ان ينام كل من بالبيت، تظل هى مستيقظة. الحقيقة انها لا تنام ابدا رغم ما يعتقده الجميع. تغلق عينيها لانها احد عضوين تستطيع التحكم فيهما. وهذا ما تستطيع فعله لتنسحب.
فمها وعينيها فقط ما يتحركان فى كل هذا الجسم الممدد.
هناك سجناء الزنازين وهناك هى سجينة الجسد. جسدها اضيق واصعب زنزانة. لا يمكنها الخروج او الدخول او حتى التمشية فى تلك الزنزانة.
الأسر بدء عندما صدمتها سيارة يقودها طائش يلعب الاتارى بسيارته الفارهة. هرب وتركها محبوسة فى تلك الزنزانة .
السجين يمد يده ليأكل، ليغطى نفسه، ليرفع عن نفسه الغطاء، ليغسل وجهه. السجين لا يحتاج مساعدة فى الحمام. اما هى فمحرومة من تلك الحريات البسيطة. تلك الحريات التى لا نراها ولا نشعر بها.
هناك آخرون ينتهكونها بدعوى الحب يوميا. يضعوا الطعام فى فمها حتى وان لم تستسيغه، يخلعوا عنها ملابسها ويغطوها بملابس اخرى، يغسلونها ويساعدونها فى الفعل البسيط الطبيعى الذى نقوم به يوميا عدة مرات. لا تشعر بجسمها فلا تستطيع الحكم على من يلمسها بحب ومن يتحرش بأعضائها. ولكنها بعينيها ترى عين الآخر وبأذنها تسمع همساته.
تعبر عن رفضها وغضبها بالصراخ والسباب ولكن لم يعد احد يكترث. بعد فترة لم يعد احد يكلمها او يسمعها. اصبح المحيطون بها يتعاملون معها كدمية. تُرفع وتُوضع وتُنقل دون حتى استئذانها.
سجنها يضيق أكثر وأكثر ومع الوقت انسحبوا هم ايضا عن عالمها الواعى. تسمعهم يجلسون فى الحجرات الأخرى يتكلمون عنها بإشفاق ولكن لا يأتى احدهم ليتكلم معها بضع دقائق كل يوم.
بعض العجائز من الاقارب كانوا يعذبوها بحكايات المعجزات أو التقدم العلمى المذهل بدعوى الأمل. من يبيع الوهم ليائس .. مجرم. أذناها مغلقتان ولكن عيناها كانت تتفحصهم وتضعهم فى مكان اخر فى سجن ببدلة الاعدام. وعقلها الذى لا يهدأ كان يرسم الحلم الجديد، حلم تكون فيه عشماوى.
كان الخلاص من سجنها له طريق واحد فقط .. الموت. لم تفكر فى هذا الخيار لانها ببساطة لا تقوى على تنفيذه. كل أعضائها تركوها وماتوا قبلها. كل أعضائها دُفنوا فى الماضى وبقيت هى سجينة للحاضر.
منعوا عنها الأطفال حتى لا يزعجوها والأصدقاء حتى لا يشفقوا عليها. منعوا عنها الجيران حتى لا يتسلوا بمآساتها والزملاء حتى لا يشمتوا بها. منعوا عنها الجميع حتى لا يجرحوها.
نقلوها من أمام النافذة كى لا تحرقها الشمس. أغلقوا النافذة كى لا تضايقها الضوضاء. وضعوها فى اخر غرفة بالمنزل كى تستطيع النوم الهادىء.
أى جرائم نصنعها بإسم الحب !!!!!!!!!!!
اليوم طويل وممل. سجن الجسد نقلها لسجون اخرى منها سجن الزمن. فكيف تخرج خارج اليوم. خارج الوقت الذى لا تريده الذى لا ينتهى.
لم تعلم ان الزمن هو الساحر الذى سيحولها لزهرة لا تذبل.
قررت لنفسها وسيلة للهروب لا يمكنهم منعها عنها. قررت ان تحلم. فحتى السجين يمكنه ان يحلم. حتى السجين من حقه ان يحلم.
اول حلم كانت طائر، لم تتوقف كثيرا فى تفاصيل نوعه وشكله وحجمه. المهم انه طائر. طائر فى غابة كبيرة. ينتقل من غصن لغصن ومن شجرة لاخرى. وعندما يسئم الشجر يرتفع للسحاب. يجاور النجوم ويغرق فى اشعة الشمس كل يوم.
ثانى حلم كانت نملة، بعد ان قضت اياما تراقب سرب نمل يتحرك من الشباك الى اسفل الدولاب. كنملة كانت تعمل وتتحرك ببطء ولكنها كانت محاطة بالنمل الآخرين. كانت فرد فى مجموعة لم تكن وحيدة.
أحلامها التالية رأت نفسها فيهم ملكة. تأمر وتنهى. ملكة لها مملكة كبيرة يحوطها الجنود دائما. يرفعونها على أكتافهم. لها عبيد وجوارى يخدمونها ولكنهم لا يلمسوها.
كانت ملكة قوية ولكن طيبة. فى كل أحلامها كان الملك يعشقها.
تخشب جسدها ونشف. امتد للأسفل واخترق أرضية المنزل وتشعب كجذور ممتدة. ومع كل حلم جديد كانت تنمو زهرة جديدة على الأرضية.
بعد عشرين ربيعا فتحوا الباب لم يجدوها ولكن كانت هناك 100 زهرة لا تذبل تملأ الغرفة.

Monday, June 14, 2010

محاولة حب

كل أغانيك تطربنى. كلامك كشعر ينساب فى أذنى كنسمة. يسافر لعقلى وهو يخدر كل حواسى.
كل ما فيك يدعو للحياة. وأنا أقاوم حتى لا أغرق.
هل سترانى عندما تصل للشاطىء الأخر؟ ستظل ممسكا بيدى؟ ام ستفلت يدى عند أول موجة حزن
أحب حياتك أحب كلامك وأعشق عينيك
أرى صورتى كشخص لطيف بثغر باسم
اشك فى صورتى وارتعب منها
كيف ترانى أفضل من نفسى؟
بعينيك اشعة تخترقنى. تنفذ لداخل قلبى وتقرأ كل رعشة به قبل ان تصل لأناملى
هل أنت حقيقة أم حلم؟
ستبحر غدا؟ ولكن مركبتك تتسع لقلبى ايضا
هل ستحمله معك؟
مركبتى صغيرة وثقوبها كبيرة
سأتركها سأهجرها بل سأحرقها لأكون معك
سأقف أشاهد اللهب يعلو وأنت تحتضن يدى
لن أجزع عندما أرى جزء منى يحترق يشتعل فستكون أنت معى تحفظ الباقى
كلما مر اسمك على لسانى شعرت بنشوة
اسمك يستدعى الحياة بداخلى
أرى زهور تتفتح فى لحظة وعصافير تتعلم الطيران لأول مرة
فقط عندما يمر اسمك على لسانى
قلبى ينمو من جديد. كان ينقصه بعض الحديد للدعامات
نعم أضحك الآن
فقلبى امتلأ بوهج لا يلسع
هل تعلم اننى لا اعرف ماذا أصابنى؟
لا استطيع توصيفه ولكنى أحب نفسى الآن
معك أرانى شخص لطيف بثغر باسم
هل ستبحر غدا؟ هل سنبحر غدا؟
لا أجد لنفسى مكانا بعد ان أحرقت مركبتى
بداخلك مكانى ومسكنى
لست عملاقا أعلم ولكنى أرفع رأسى لأرى نهاية حلمك
أبحث عن اسمى ولا أجده
حلمك أكبر منى
وأنا أخشى الغرق
ستظل ممسكا بيدى أليس كذلك؟
أستطيع العوم ولكن أمواج بحرك أعلى من يدى
كلما تذكرت نفسى قبلك بكيت
وكلما تخيلت نفسى بدونك أبكى
لا يوجد فى قلبى اسما غيرك
تعلم هذا طبعا؟
كان فى مركبتى صورة لك ولكنى أحرقتها
فضلت يدك على ورقة ملونة
ستظل ممسكا بيدى اليس كذلك؟

Thursday, May 27, 2010

الفستان الأحمر

فجأة تأتى وتستعمل كتفى أو بطنى كوسادة. تبدأ فى الكلام. لا تنتظر منى اجابة. تحكى لى كل ما يحدث فى فلكها الصغير. وبدون مقدمات تقوم عندما تفرغ ما فى جعبتها من قصص.
كل مرة أحاول ان اجعل من يدى طوق ليمنعها من الطيران وتظل لفترة أطول ولكنى أتراجع. أخاف ان تجزع من قبضتى فلا ترجع.
مع الأيام ثقل رأسها وطالت أحاديثها. وكالعادة عندما تنتهى ترجع لغرفتها وتغرق فى عالمها.
اليوم أتت الىّ ولكنها جلست بعيدا. على الطرف الأخر للكنبة ولا تنظر لى مباشرةً
- ماما كنت عايزة أكلمك فى موضوع
صوتها مختلف .. منخفض .. متردد. كانت ترتدى تلك البلوزة التى أكرهها. أصبحت تشترى ملابسها بدونى. تخرج مع صديقاتها وتعود بأكياس متنوعة وهى سعيدة وأنا أفزع من الألوان والموديلات التى أصبحت تفضلها.
- فاكرة أنا كنت حكيتلك عن واحد معانا فى الكلية أكبر منى بسنتين. فاكرة قلتلك انه كان عاجبنى قوى.
فى الحضانة كان لها اصدقاء كثيرون. أول يوم ذهبت للحضانة كانت تبكى. ظلت تبكى عدة أيام كلما ذهبت للحضانة. كانت تمسك بيدى ولا تفلتها أبدا مهما حاولت. كنت أعدها بحلويات او فسح وأحيانا كنت اعنفها الا انها ظلت ممسكة بيدى ولم تتركها الا بعد ان عرفتها على فتاتين معها فى الفصل. تركت يدى وذهبت لتلعب معهن.
كانت متعتى كل يوم ان اصلها للمدرسة وارى كيف تستقبلها صديقاتها. وأشعر بالفخر ان ابنتى نجمة وسط قريناتها.
- احنا بقالنا مدة بنتكلم مع بعض و ... كلام عادى يعنى و... وكنت حاسة انه مختلف عن كل الولاد التانيين
فى عيد ميلادها العاشر اشتريت لها فستانا أحمرا كان جميلا. ظلت ترتديه لمدة يومين ورفضت ان تخلعه. عندما صغر عليها حزنت وطلبت فستانا غيره أكبر. كل سنة فى عيد ميلادها اشترى لها فستانا جديدا حتى اصبحت ترفض ارتداء الفساتين وتفضل البلوزات والبنطلونات. ولكنى لم أنسى شكلها ابدا فى ذلك الفستان. كانت جميلة. وكانت ضفائرها الى منتصف ظهرها. بشرائط حمراء.
- هو حكالى كل حاجة عن نفسه .... وانا كمان ... يعنى استريحنا لبعض قوى
تشبهنى لحد كبير وترفض الاعتراف بذلك. نسخة أجمل وأحدث منى. نسخة صغيرة أذكى. تضع ساقها اليمنى تحتها عندما تجلس على الكنبة مثلى. تبلل البسكوتة فى الشاى قبل ان تأكلها مثلى. حتى شكل أصابعها متطابق مع أصابعى. ومع ذلك تستنكر أى شبه. وكأنها ابنة لإمرأة أخرى.
- النهاردة يا ماما فاتحنى بصراحة وقال لى انه بيحبنى وعايز يتجوزنى. هو طبعا مش حيقدر يعمل اى حاجة غير بعد 3 شهور بعد التخرج يعنى
عندما تتكلم لا اسمع غيرها ولا أرى غيرها
- هو عايز ييجى يتكلم مع بابا وكده ... على فكرة ظروفه المادية كويسة وحنقدر نبتدى حياتنا علطول
أتعجب عندما تجلس بجوارى لتملأ النصف الأخر من الكنبة كيف كبرت ومتى. أتذكرها رضيعة أحملها بين يدى. كلما رضعتها كانت تبتسم بعد ان تشبع وكأنها تشكرنى. تلك الابتسامة كانت تأسرنى. ويطير عقلى معها
- حتقولى لبابا امتى؟
يدللها أبيها ولا يرفض لها طلبا. يهمس لى كل فترة "تفتكرى حنعمل ايه لما تتجوز وتسيبنا؟"
- هه يا ماما .. حتقولى لبابا امتى؟
- أقوله على ايه؟
- على العريس
- عريس !!!! عريس ايه؟؟؟؟؟؟؟؟

Monday, May 3, 2010

كراكيب

الساعة الثالثة فجرا استيقظت أمل من نومها، الظلام حولها ولا ترى اى شعاع نور ولا تسمع اى صوت ومع ذلك لا تستطيع النوم.
- غدا يوم عمل لابد ان انام ... يارب
كان عادل غارقا فى نومه.
- يا بختك .. اعجب من قدرتك على النوم بسرعة
وضعت رأسها على الوسادة واغلقت عينيها وحاولت ان تنام. لكن صوت المنبه وصوت نفس عادل اصبحا فجأة كآلات حفر ضخمة تملأ هدوء الليل ضجيجا. لفت جسدها لتواجه جسده ولكنها لم ترى وجهه بل ظهره. عجبت كيف اصبح ظهره مقوسا هكذا. وضعت كفها على ظهره واغلقت عينيها ربما تنام. ولكنها لم تنم.
الوقت يمر وتزداد اضطرابا. بدأت تنظر حولها فى الغرفة فرغم الظلام الا ان عينيها الفته وكانت ترى الغرفة جيدا.
- ما تلك الاكياس التى فوق الدولاب؟ اه لقد نسيت انها الاوعية القديمة
مسحت الغرفة بعينيها وفى كل ركن وجدت انها اضافت جزءا جديدا لم يكن موجودا قبلا، اكياس فوق الدولاب وعلب تحت السرير. كرسى من السفرة بجوار الدولاب. شعرت بضيق وقرف فتلك الغرفة لم تكن هكذا عندما تزوجت منذ ربع قرن.
الغد كان عيد جوازهما ولكن كالعادة لم يعودا يحتفلا بتلك المناسبة.
بدأ عادل فى الحركة ولف بجسده واصبح يواجهها ولكنه كان مستغرقا فى نوم عميق. نظرت اليه واستغربت: من هذا الرجل الذى يرقد بجوارى؟
عندما رأته لأول مرة كان فى الجامعة عندما عرفها عليه اخوها الاكبر وزميله. لم يلفت انتباهها ولكنه انبهر بها فبدأ يتردد على القسم التى تدرس فيه يوميا. مع الوقت كانت تكتشفه اكثر فاكثر وتعجب به دون ان تصرح. وبعد ان ظهرت النتيجة ذهب اليها وقال لها بدون اى مقدمات: تتجوزينى. وأومأت موافقة فى لحظتها لم تتردد او تفكر. كان قرارها جاهزا فى اعماقها منتظرا فرصة لاعلانه.
الآن اختلف شكله كثيرا. بدا كرشه وهو نائم وكأنه شوال يضعه بينهما تراه يصعد ويهبط مع نفسه. حتى شعره بدأ يتساقط .
لفت بجسدها للجهة الأخرى واصبح ظهرها يواجه وجهه. مازالت لا تستطيع النوم. مدت يدها لترى الموبايل لتعرف الوقت ولكن يدها لمست شىء اخر .. الساعة .. اخذتها وتحسستها.
تلك الساعة التى اشتراها لها عادل يوم ان قبض اول مرتب. تهرأ اُستيكها كثيرا واستبدلته عدة مرات على مدار السنين ولكنها ابدا لم تستطع الاستغناء عن تلك الساعة. لم تعد تليق بها الآن بشكلها المهترىء ولكنها دائما موجودة على الكومدينو بجوارها.
ابتسمت لذكرى الساعة ولثمتها ووضعتها على الكومدينو مرة اخرى. وامسكت بالموبايل.
- ياااااااااااااه الرابعة. سأصاب بالصداع طوال الغد ان لم انم الآن
اعادت الموبايل وفى تلك اللحظة مرت سيارة بالشارع. نور مصابيحها مر من الشيش كخيوط بيضاء تتخلل العتمة تجرى على السقف وتنزل على الحائط . اعتدلت على السرير ومرت الخيوط البيضاء على وجهها وعلى الصورة بجوارها.
فى وسط ظلام الليل كانت الخيوط البيضاء تنير صورة تامر ومريم. عاد الظلام يفرض سيطرته مرة اخرى. امسكت الصورة ونظرت فيها ولكنها لم ترى شيئا. بقلبها كانت تذكرهما يولدان .. يحبيان .. يكبران .. ظهور السنة الاولى لكليهما .. يتضحاكان .. اول يوم فى الحضانة .. يتصارعان على الحلوى .. ينتقلا من مرحلة لمرحلة .. نتيجة الثانوية العامة .. اول يوم فى الكلية.
احتضنت الصورة ودارت لتواجه عادل. كانت هناك دمعة فى عينيها. لم تكن حزينة او تعيسة. الذكريات هزت بداخلها ذلك الركن المظلم من وجدانها. عندما توقفت عن الاستمتاع بالحياة. وحزمت كل ذكرياتها السعيدة فى حقائب سفر وخزنتها خلف القلب حيث لا حركة ولا شعور. مررت اصابعها فى شعره وهو نائم. وبدا لها يبتسم. تذكرت لحظاتهما معا. كم كانت سعيدة. ليلة زفافهما .. اول عيد زواج عندما فاجأها برحلة الى الاسكندرية .. يوم علمت انها حامل لأول مرة وكان عادل يرقص كالأطفال منتشيا..
لا تذكر لعادل ان كان يوما قاسيا اوبخيلا معها لكن مع الوقت بدأت تلك الشعلة التى كانت تتوهج داخلها تنطفىء. لم تحاول ان تعرف السبب واقتنعت بالتفسير التقليدى ان الزواج اساسه العشرة وليس الحب. الآن توقفا عن الكلام. كل شىء فى حياتهما اصبح مبرمج منذ سنوات. ميعاد الاستيقاظ .. الطعام .. شراء لوازم البيت .. زيارات الاقارب فى الاعياد. وكأن الحياة سقطت فى دوامة تتكرر كل يوم بلا جديد.
أصبحت الخامسة واستحال النوم تماما.
بدأ بعض النور ينتصر على ظلمة الليل، اعادت الصورة مكانها واستلقت على ظهرها وظلت تحارب ذلك الأرق الذى يحاصرها بالذكريات ولم تفلح. وأخيرا غمر ضوء الشمس الغرفة.
فى نور النهار بدت الغرفة اقبح. اغلب اثاث الغرفة اختفى خلف الزوائد الدودية التى اضيفت على مر السنين: ملابس اكياس صور علب. بدت لها الغرفة وكأنها وحش ينتهك كل مواطن الجمال فيها. لم يخيفها بقدر ما أصابها بالاشمئزاز.
- كراكيب
صرخ عقلها بهذا الوصف. امتلأت حياتها بالكراكيب وتسللت لعواطفها وانتهى الأمر بتغطية كل ما هو رائع وممتع وبراق بالتراب. بتراب الكراكيب. مدت يدها لرقبتها تتحسسها هل هناك من يخنقها بالفعل ام هى تخاريف قلة نوم. شعرت بالذنب لأنها أهملت غرفتها. لم تعد تعتنى بها كما كانت تفعل قبلا. وفجأة ملأ انفها رائحة مميزة تعرفها من على بعد. رائحة عادل. أمالت رقبتها نحوه ونظرت له طويلا واعادت السؤال: من هذا الرجل؟
كيف سمح هو ايضا للكراكيب بان تغزو غرفتهما؟ لماذا لم يمنع الكراكيب؟ هل عليها الآن ان تنظف الغرفة وحدها؟ هل سيفهمها عندما تحكى له عن الكراكيب؟
رن منبه موبايل عادل فى تمام السادسة مثل كل يوم وبحركة آلية فتح عينيه ثم تثائب. نظر اليها فوجدها مستيقظة وبدا على وجهها انها لم تنم.
- كل سنة وانتِ طيبة
- ما رأيك ان لا نذهب للعمل اليوم؟
نظر اليها طويلا دون ان ينطق محاولا ان يفهم ما لا تقوله بذلك الطلب. وقبل ان يرد وضعت رأسها على صدره واحاطت بيمينها جسده وأغلقت عينيها ونامت.
ابتسم عادل واحاطها بيمينه. امسك موبايله وارسل رسالة لزميل له: اعمل لى عارضة . ظرف طارىء.

Sunday, May 2, 2010

حيرة صديقتى

- سالت صديقتى: لماذا؟
- قالت: لأنه الحب
- سألتها: والنهاية؟
- قالت: لا أعلم
- صديقتى لا يمكنك الاستمرار فى تلك العلاقة
- قالت: أعلم
- صديقتى وراءك ماضيك زوج وطفل
- قالت: أعلم. ولا يسعنى سوى الإستمرار
- قلت: هل بسبب الغضب ... الهجر
- قالت: لا بسبب الحب
- قلت: ولكن ...
- قالت: كفى. فالكل يعلم خدعتى عن زوج محب وبيت سعيد ولم يعلم أحد بنكبتى بقصتى
- أى نكبة صديقتى؟
- نكبة زوجى وبيتى: زوج بعيد يعشق التجديد، فى كل مرة يزداد ابتعادا وازداد أنا نفورا. بيتى هو سجنى اشترانى فيه زوجى ومللت السجن.
- أستهربين صديقتى؟
- كلا سابقى فى السجن مقيدة ـقصد بالبيت متزوجة. لن أهرب لى طفل هناك أحبه.
- والآخر صديقتى؟
- سيبعد عنى قريبا. أعلم القدر. ايام مضيئة فى عتمة الزمن. سابعد أنا ايضا الى اين لا أدرى؟
- لماذا صديقتى؟
- لأنى هنا متزوجة أم منجبة لى طفل لى سجن لا استطيع الفكاك منه. سيسجنى الناس فى سجن الحرام اذا ...
- لكن صديقتى كيف تكونين مع رجل بقلب لآخر؟
- لأنه ليس معى زوجى بجانبى ولكن بيس معى. معى ذكريات الآخر الذى ...
- ماذا صديقتى؟
- الذى رفعنى فوق نفسه ولم يبعد عنى ولو للحظة احاطنى وضمنى وأخبرنى بما فى قلبه وقبل ان أخبره تركنى
- تركك صديقتى!؟
- نعم فهو نبيل لم يرد انفصالى عن سجنى أقصد زوجى. أخبرنى بما فى قلبه وهذا حقه وحقى وتركنى لأنه يعلم استحالة الإستمرار.
- لماذا لم تهربى معه صديقتى؟
- قلت لكِ سيسجننى الناس فى سجن الحرام ولأن لى طفل هناك أحبه
- ولكن صديقتى هذا عذاب!
- وأى عذاب لوتدرين. من أحبنى تركنى لمن لا يحبنى ومن لا يحبنى لا يهتم. لو لى حرية الاختيار ...
- كل منا حر صديقتى؟
- كلا فالسجين حر ان ينام فى اى ركن من الزنزانة هذه حريتى. لو كانت لى حريتى لكنت تركته وأخذت ابنى وهجرته.
- إلى أين صديقتى؟
- لا أعلم
- سألت صديقتى: لماذا؟
- قالت: لأنه الحب
- سألتها: والنهاية؟
- قالت: لا أعلم
- صديقتى لا يمكنك الإستمرار فى تلك العلاقة
- قالت: أعلم
- صديقتى وراءك ماضيك زوج وطفل
- قالت: اعلم .. ولا يسعنى سوى الإستمرار


13/11/97

الموت قريب

عندما زادت الآلام المعتادة الى الحد الذى صرخت فيه من الألم كان لابد للذهب للطبيب. الطبيب لم يخبرها بالكثير، فقط طلب الراحة وطمأنها: مجرد إرهاق الراحة مطلوبة.
ولكن لم تجدِ الراحة تفعا ظلت الآلام تراودها وتزداد أكثر فأكثر. فقال الطبيب: التحاليل ستظهر كل شىء.
وبالفعل اظهرت التحاليل سبب وموعد الموت المقترب.
المفاجاة أكبر من أن تتحملها وحدها ولكن لابد من ذلك فالجميع فى حالة كآبة من مشاكل الدنيا. لا أحد يريد أن يسمع أو يعرف لا أحد يسال عن آلامها.
الموت قريب قريب انتظريه فى أى لحظة. تلك كلمات الطبيب القاسية. تلك الفتاة الشابة التى بدأت للتو فى النظر للحياة من خارج أسوار المدرسة. بدأت ترتب أحلامها وتضع فارس الأحلام فى أول خانة فى قائمة الأحلام.
لكن للأسف فكل هذا سيُلغى. الوقت قليل على ان يُبعثر على أحلام لن تتحقق.
وضعت قائمة أخرى وهى قائمة أفعال اللحظات الأخيرة. جلست مسترخية على السرير تتذكر كل شخص قابلته فى حياتها: هل هناك خلاف أو شىء مازال معلق بينهما أم لا؟
جاءتها فرصة ان تتصالح مع الجميع ونفسها أولا. ندمت على كل لحظة مرت عليها وهى تكره او تغضب. شعرت بقيمة تلك اللحظات المُهدرة.
وأخيرا وجدت شوقا شديدا لرؤية صديقتها القديمة التى لم تعد تراها كثيرا الآن. كان لديها شوقا لتجلس معها فى آخر جلسة صداقة بين فتاتين مجردتين من كل احباطات الحياة ومشاكلها وأعبائها. حدثتها فى التليفون لأول مرة منذ فترة وطلبت منها موعد للقاء وكالعادة كان العذر الأساسى الإنشغال فى أمور الدنيا والحياة والزواج. ولكن مع إصرارها شعرت صديقتها بأن شيئا غامضا يدور لا تفهم كنهه سيحدث.
وكان اللقاء حاولت كثيرا ولكنها لم تستطع أن تخفى على صديقتها خبر الموت. فموهبة صديقتها فى قراءة أفكارها بجانب ضعفها أمامها جعلا الإنهيار والبوح بكل شىء هو النتيجة الحتمية.
سمعت صديقتها منها كل التفاصيل وسكتت. لفترة لم تنطق وهى فى حالة ذهول وأخيرا بكت. نزلت دمعة من عينيها. فهذا ما تساويه مجرد دمعة. بدأت الدموع تنساب من عينيها هى ايضا فلقد بدات تواجه نفسها بحقيقة مستقبلها المنتهى قبل ان يبدأ. حقيقة الموت القريب.
تركت صديقتها وذهبت لتمشى وحدها تفكر فى الخطوة التالية، لم تجد شيئا تفعله. فكل ما كان من اهتماماتها اصبح بلا معنى أو هدف لا جدوى منه الآن فأى من هذا لن ينتقل معها لبعد الموت. وهكذا أهملت اشياءً كثيرة لم تكن تتصور الاستغناء عنها. حتى الناس ابتعدت عنهم جميعا وان ظلت معهم.
كل انسان عزيز على قلبها أخذته فى خلوة وداع دون أن تخبره بشىء. وشعر الجميع بشىء غامض فى افعالها.
كل الصديقات والأصدقاء والأقارب لم يفهموا سر طلبها الملح للقائهم بالتتابع وسر سؤالها المستمر: هل فعلت شيئا يغضبك؟
لماذا كل هذه اللقاءات وكأنها ستهاجر بلا رجعة أو تموت. هذا كلامهم وهم يضحكون ولو يدرون لبكوا.
وبعد كل ذلك تفرغت لشىء مهم اخر لم تكن منتظمة فى أدائه: الصلاة.
بدات مع الله من جديد كأنها طفلة صغيرة تتعرف على الله لأول مرة. ولم يكن ذلك خوفا من الموت وان كان هذا سبب اتجاهها للصلاة فى البداية ولكن كان ذلك لعلمها بأن الصلاة الشىء الوحيد الذى سينتقل معها بعد الموت.
فى أحيان كثيرة كانت تجلس لتتذكر حياتها وتشعر بالندم أحيانا على ضياعها لبعض الفرص أو لموتها قبل أن تفعل أو تحقق بعض الأحلام.
ومع اقتراب الموت تلاشى كل ذلك. كل الأشياء اصبحت عدم. الا شيئا واحدا كانت تحلم به حتى الموت: الحب. كانت تحلم بالحب الذى لم تذقه ابدا. كانت تحلم بذلك الرجل الذى لو كان موجودا لشاركها كل هذا الألم.
ولكن فى لحظة عطف على هذا الرجل المجهول حمدت الله انه لو يوجد بعد والا كانت ستتركه حطاما تدفعه الدنيا فى بحر الحياة. فالحب الذى فى مخيلتها لن يسمح بأى شعرة من هذا الرجل تتحرر منه فحبها صعب الفكاك منه لأنه قوى جدا.
ومرت أيام وأسابيع وشهور قليلة وجاء المنتظر. جاء الموت وشعرت بقرب قدومه وعندها أخبرت الجميع وتركتهم ينوحون عليها وهى لا تزال تشعر بنبض قلبها.
واقترب أكثر فأكثر وأخيرا رأته أمامها. رأت الموت شابا يقترب يأخذها من يدها لتذهب معه.
وذهبت دون رجعة
واختفت كل الأحلام والخطط
وتلاشى كل صوت للنواح كان يحاوطها
وابتعد كل شىء ملموس
وسبحت فى الفضاء خلف هذا الشاب
بلا نهاية


4/11/2000